الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرطبي المسمى بـ «الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان» **
{والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم كتاب الله عليكم وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة إن الله كان عليما حكيما} قوله تعالى{والمحصنات} عطف على المحرمات والمذكورات قبل. والتحصن: التمنع؛ ومنه الحصن لأنه يمتنع فيه؛ ومنه قوله تعالى والمصدر الحصانة (بفتح الحاء) والحصن كالعلم. فالمراد بالمحصنات ههنا ذوات الأزواج؛ يقال: امرأة محصنة أي متزوجة، ومحصنة أي حرة؛ ومنه وقال الشاعر: ومنه قول سحيم: إذا ثبت هذا فقد اختلف العلماء في تأويل هذه الآية؛ فقال ابن عباس وأبو قلابة وابن زيد ومكحول والزهري وأبو سعيد الخدري: المراد بالمحصنات هنا المسبيات ذوات الأزواج خاصة، أي هن محرمات إلا ما ملكت اليمين بالسبي من أرض الحرب، فإن تلك حلال للذي تقع في سهمه وإن كان لها زوج. وهو قول الشافعي في أن السباء يقطع العصمة؛ وقال ابن وهب وابن عبدالحكم ورياه عن مالك، وقال به أشهب. يدل عليه ما قلت: وهذا يرده حديث بريرة؛ لأن عائشة رضى الله عنها اشترت بريرة وأعتقتها ثم خيرها النبي صلى الله عليه وسلم وكانت ذات زوج؛ وفي إجماعهم على أن بريرة قد خيرت تحت زوجها مغيث بعد أن اشترتها عائشة فأعتقتها لدليل على أن بيع الأمة ليس طلاقها؛ وعلى ذلك جماعة فقهاء الأمصار من أهل الرأي والحديث، وألا طلاق لها إلا الطلاق. وقد احتج بعضهم بعموم قوله: ألاما ملكت أيمانكم} وقياسا على المسبيات. وما ذكرناه من حديث بريرة يخصه ويرده، وأن ذلك إنما هو خاص بالمسبيات على حديث أبي سعيد، وهو الصواب والحق إن شاء الله تعالى. وفي الآية قول ثالث: روى الثوري عن مجاهد عن إبراهيم قال ابن مسعود في قوله تعالى{والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم} قال: ذوات الأزواج من المسلمين والمشركين. وقال علي بن أبي طالب: ذوات الأزواج من المشركين. وفي الموطأ عن سعيد بن المسيب }والمحصنات من النساء }هن ذوات الأزواج؛ ويرجع ذلك إلى أن الله حرم الزنى. وقالت طائفة: المحصنات في هذه الآية يراد به العفائف، أي كل النساء حرام. وألبسهن اسم المحصان من كان منهن ذات زوج أو غير ذات زوج؛ إذ الشرائع في أنفسها تقتضي ذلك. قوله تعالى{إلا ما ملكت أيمانكم} قالوا: معناه بنكاح أو شراء. هذا قول أبي العالية وعبيدة السلماني وطاوس وسعيد بن جبير وعطاء، ورواه عبيدة عن عمر؛ فأدخلوا النكاح تحت ملك اليمين، ويكون معنى الآية عندهم في قوله تعالى{إلا ما ملكت أيمانكم }يعني تملكون عصمتهن بالنكاح وتملكون الرقبة بالشراء، فكأنهن كلهن ملك يمين وما عدا ذلك فزنى، وهذا قول حسن. وقد قال ابن عباس{المحصنات} العفائف من المسلمين ومن أهل الكتاب. قال ابن عطية: وبهذا التأويل يرجع معنى الآية إلى تحريم الزنى؛ وأسد الطبري أن رجلا قال لسعيد بن جبير: أما رأيت ابن عباس حين سئل عن هذه الآية فلم يقل فيها شيئا؟ فقال سعيد: كان ابن عباس لا يعلمها. وأسند أيضا عن مجاهد أنه قال: لو أعلم من يفسر لي هذه الآية لضربت إليه أكباد الإبل: قوله }والمحصنات }إلى قوله }حكيما}. قال ابن عطية: ولا أدري كيف نسب هذا القول إلى ابن عباس ولا كيف انتهى مجاهد إلى هذا القول؟ قوله تعالى{كتاب الله عليكم} نصب على المصدر المؤكد، أي حرمت هذه النساء كتابا من الله عليكم. ومعنى }حرمت عليكم} كتب الله عليكم. وقال الزجاج والكوفيون: هو نصب على الإغراء، أي الزموا كتاب الله، أو عليكم كتاب الله. وفيه نظر على ما ذكره أبو علي؛ فإن الإغراء لا يجوز فيه تقديم المنصوب على حرف الإغراء، فلا يقال: زيدا عليك، أو زيدا دونك؛ بل يقال: عليك زيدا ودونك عمرا، وهذا الذي قاله صحيح على أنه منصوبا بـ }عليكم} إشارة إلى ما ثبت في القرآن من قوله تعالى قوله تعالى{وأحل لكم ما وراء ذلكم} قرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية حفص }وأحل لكم} ردا على }حرمت عليكم}. الباقون بالفتح ردا على قوله تعالى{كتاب الله عليكم}. وهذا يقتضي ألا يحرم من النساء إلا من ذكر، وليس كذلك؛ فإن الله تعالى قد حرم على لسان نبيه من لم يذكر في الآية فيضم إليها، قال الله تعالى وإذا تقرر هذا فقد عقد العلماء فيمن يحرم الجمع بينهن عقدا حسنا؛ فروى معتمر بن سليمان عن فضيل بن ميسرة عن أبي جرير عن الشعبي قال: كل امرأتين إذا جعلت موضع إحداهما ذكرا لم يجز له أن يتزوج الأخرى فالجمع بينهما باطل. فقلت له: عمن هذا؟ قال: عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال سفيان الثوري: تفسيره عندنا أن يكون من النسب، ولا يكون بمنزلة امرأة وابنة زوجها يجمع بينهما إن شاء. قال أبو عمر: وهذا على مذهب مالك والشافعي وأبي حنيفة والأوزاعي وسائر فقهاء الأمصار من أهل الحديث وغيرهم فيما علمت لا يختلفون في هذا الأصل. وقد كره قوم من السلف أن يجمع الرجل بين ابنة رجل وامرأته من أجل أن أحدهما لو كان ذكرا لم يحل له نكاح الأخرى. والذي عليه العلماء أنه لا بأس بذلك، وأن المراعى النسب دون غيره من المصاهرة؛ ثم ورد في بعض الأخبار التنبيه على العلة في منع الجمع بين من ذكر، وذلك ما يفضي إليه الجمع من قطع الأرحام القريبة مما يقع بين الضرائر من الشنان والشرور بسبب الغيرة؛ قوله تعالى{أن تبتغوا بأموالكم} لفظ يجمع التزوج والسراء. و}أن} في موضع نصب بدل من }ما}، وعلى قراءة حمزة في موضع رفع؛ ويحتمل أن يكون المعنى لأن، أو بأن؛ فتحذف اللام أو الباء فيكون في موضع نصب. و}محصنين} نصب على الحال، ومعناه متعففين عن الزنى. }غير مسافحين} أي غير زانين. والسفاح الزنى، وهو مأخوذ من سفح الماء، أي صبه وسيلانه؛ قوله تعالى{بأموالكم} أباح الله تعالى الفروج بالأموال ولم يحصل، فوجب إذا حصل بغير المال ألا تقع الإباحة به؛ لأنها على غير الشرط المأذون فيه، كما لو عقد على خمر أو خنزير أو ما لا يصح تملكه. ويرد على أحمد قوله في أن العتق يكون صداقا؛ لأنه ليس فيه تسليم مال وإنما فيه إسقاط الملك من غير أن استحقت به تسليم مال إليها؛ فإن الذي كان يملكه المولى من عنده لم ينتقل إليها وإنما سقط. فإذا لم يسلم الزوج إليها شيئا ولم تستحق عليه شيئا، وإنما أتلف به ملكه، لم يكن مهرا. وهذا بين مع قوله تعالى قوله تعالى{فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة} الاستمتاع التلذذ والأجور المهور؛ وسمي المهر أجرا لأنه أجر الاستمتاع، وهذا نص على أن المهر يسمى أجرا، وذلك دليل على أنه في مقابلة البضع؛ لأن ما يقابل المنفعة يسمى أجرا. وقد اختلف العلماء في المعقود عليه في النكاح ما هو: بدن المرأة أو منفعة البضع أو الحل؛ ثلاثة أقوال، والظاهر المجموع؛ فإن العقد يقتضي كل ذلك. والله أعلم. واختلف العلماء في معنى الآية؛ فقال الحسن ومجاهد وغيرهما: المعنى فما انتفعتم وتلذذتم بالجماع من النساء بالنكاح الصحيح }فآتوهن أجورهن} أي مهورهن، فإذا جامعها مرة واحدة فقد وجب المهر كاملا إن كان مسمى، أو مهر مثلها إن لم يسم، فإن كان النكاح فاسدا فقد اختلفت الرواية عن مالك في النكاح الفاسد، هل تستحق به مهر المثل، أو المسمى إذا كان مهرا صحيحا؟ فقال مرة المهر المسمى، وهو ظاهر مذهبه؛ وذلك أن ما تراضوا عليه يقين، ومهر المثل اجتهاد فيجب أن يرجع إلى ما تيقناه؛ لأن الأموال لا تستحق بالشك. ووجه قوله{مهر المثل} أن واختلف العلماء كم مرة أبيحت ونسخت؛ قلت: وهذه الطرق كلها في صحيح مسلم؛ وفي غيره عن علي نهيه عنها في غزوة تبوك؛ رواه إسحاق بن راشد عن الزهري عن عبدالله بن محمد بن علي عن أبيه عن علي، ولم يتابع إسحاق بن راشد على هذه الرواية عن ابن شهاب؛ قال أبو عمر رحمه الله. روى الليث بن سعد عن بكير بن الأشج عن عمار مولى الشريد قال: سألت ابن عباس عن المتعة أسفاح هي أم نكاح؟ قال: لا سفاح ولا نكاح. قلت: فما هي؟ قال: المتعة كما قال الله تعالى. قلت: هل عليها عدة؟ قال: نعم حيضة. قلت: يتوارثان، قال: لا. قال أبو عمر: لم يختلف العلماء من السلف والخلف أن المتعة نكاح إلى أجل لا ميراث فيه، والفرقة تقع عند انقضاء الأجل من غير طلاق. وقال ابن عطية{وكانت المتعة أن يتزوج الرجل المرأة بشاهدين وإذن الولي إلى أجل مسمى؛ وعلى أن لا ميراث بينهما، ويعطيها ما اتفقا عليه؛ فإذا انقضت المدة فليس له عليها سبيل ويستبرئ رحمها: لأن الولد لا حق فيه بلا شك، فإن لم تحمل حلت لغيره. وفي كتاب النحاس: في هذا خطأ وأن الولد لا يلحق في نكاح المتعة}. قلت: هذا هو المفهوم من عبارة النحاس؛ فإنه قال: وإنما المتعة أن يقول لها: أتزوجك يوما - أو ما أشبه ذلك - على أنه لا عدة عليك ولا ميراث بيننا ولا طلاق ولا شاهد يشهد على ذلك؛ وهذا هو الزنى بعينه ولم يبح قط في الإسلام؛ ولذلك قال عمر: لا أوتى برجل تزوج متعة إلا غيبته تحت الحجارة. وقد اختلف علماؤنا إذا دخل في نكاح المتعة هل يحد ولا يلحق به الولد أو يدفع الحد للشبهة ويلحق به الولد على قولين؛ ولكن يعذر ويعاقب. وإذا لحق اليوم الولد في نكاح المتعة في قول بعض العلماء مع القول بتحريمه، فكيف لا يلحق في ذلك الوقت الذي أبيح، فدل على أن نكاح المتعة كان على حكم النكاح الصحيح، ويفارقه في الأجل والميراث. وحكى المهدوي عن ابن عباس أن نكاح المتعة كان بلا ولي ولا شهود. وفيما حكاه ضعف؛ لما ذكرنا. قال ابن العربي: وقد كان ابن عباس يقول بجوازها، ثم ثبت رجوعه عنها، فانعقد الإجماع على تحريمها؛ فإذا فعلها أحد رجم في مشهور المذهب. وفي رواية أخرى عن مالك: لا يرجم؛ لأن نكاح المتعة ليس بحرام، ولكن لأصل آخر لعلمائنا غريب انفردوا به دون سائر العلماء؛ وهو أن ما حرم بالسنة هل هو مثل ما حرم بالقرآن أم لا؟ فمن رواية بعض المدنيين عن مالك أنهما ليسا بسواء؛ وهذا ضعيف. وقال أبو بكر الطرطوسي: ولم يرخص في نكاح المتعة إلا عمران بن حصين وابن عباس وبعض الصحابة وطائفة من أهل البيت. وفي قول ابن عباس يقول الشاعر: في بضة رخصة الأطراف ناعمة تكون مثواك حتى مرجع الناس وسائر العلماء والفقهاء من الصحابة والتابعين والسلف الصالحين على أن هذه الآية منسوخة، وأن المتعة حرام. وقال أبو عمر: أصحاب ابن عباس من أهل مكة واليمن كلهم يرون المتعة حلالا على مذهب ابن عباس وحرمها سائر الناس. وقال معمر: قال الزهري: ازداد الناس لها مقتا حتى قال الشاعر: كما تقدم. قوله تعالى{أجورهن} يعم المال وغيره، فيجوز أن يكون الصداق منافع أعيان. وقد اختلف في هذا العلماء؛ فمنعه مالك والمزني والليث وأحمد وأبو حنيفة وأصحابه؛ إلا أن أبا حنيفة قال: إذا تزوج على ذلك فالنكاح جائز وهو في حكم من لم يسم لها، ولها مهر مثلها إن دخل بها، وإن لم يدخل بها فلها المتعة. وكرهه ابن القاسم في كتاب محمد وأجازه أصبغ. قال ابن شاس: فإن وقع مضى في قول أكثر الأصحاب. وهي رواية أصبغ عن ابن القاسم. وقال الشافعي: النكاح ثابت وعليه أن يعلمها ما شرط لها. فإن طلقها قبل الدخول ففيها للشافعي قولان: أحدهما أن لها نصف أجر تعليم تلك السورة، والآخر أن لها نصف مهر مثلها. وقال إسحاق: النكاح جائز. قال أبو الحسن اللخمي: والقول بجواز جميع ذلك أحسن. والإجارة والحج كغيرهما من الأموال التي تتملك وتباع وتشترى. وإنما كره ذلك مالك لأنه يستحب أن يكون الصداق معجلا، والإجارة والحج في معنى المؤجل. احتج أهل القول الأول بأن الله تعالى قال قلت: وقد قوله تعالى{ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة} أي من زيادة ونقصان في المهر؛ فإن ذلك سائغ عند التراضي بعد استقرار الفريضة. والمراد إبراء المرأة عن المهر، أو توفية الرجل كل المهر إن طلق قبل الدخول. وقال القائلون بأن الآية في المتعة: هذا إشارة إلى ما تراضيا عليه من زيادة في مدة المتعة في أول الإسلام؛ فإنه كان يتزوج الرجل المرأة شهرا على دينار مثلا، فإذا انقضى الشهر فربما كان يقول: زيديني في الأجل أزدك في المهر. فبين أن ذلك كان جائزا عند التراضي. {ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات والله أعلم بإيمانكم بعضكم من بعض فانكحوهن بإذن أهلهن وآتوهن أجورهن بالمعروف محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخدان فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب ذلك لمن خشي العنت منكم وأن تصبروا خير لكم والله غفور رحيم} قوله تعالى{ومن لم يستطع منكم طولا} نبه تعالى على تخفيف في النكاح وهو نكاح الأمة لمن لم يجد الطول. واختلف العلماء. في معنى الطول على ثلاثة أقوال: الأول: السعة والغنى؛ قاله ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير والسدي وابن زيد ومالك في المدونة. يقال: طال يطول طولا في الإفضال والقدرة. وفلان ذو طول أي ذو قدرة في مال (بفتح الطاء). وطولا (بضم الطاء) في ضد القصر. والمراد ههنا القدرة على المهر في قول أكثر أهل العلم، وبه يقول الشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور. قال أحمد بن المعذل: قال عبدالملك: الطول كل ما يقدر به على النكاح من نقد أو عرض أو دين على ملي. قال: وكل ما يمكن بيعه وإجارته فهو طول. قال: وليست الزوجة ولا الزوجتان ولا الثلاثة طولا. وقال: وقد سمعت ذلك من مالك رضي الله عنه. قال عبدالملك: لأن الزوجة لا ينكح بها ولا يصل بها إلى غيرها إذ ليست بمال. وقد سئل مالك عن رجل يتزوج أمة وهو ممن يجد الطول؛ فقال: أرى أن يفرق بينهما. قيل له: إنه يخاف العنت. قال: السوط يضرب به. ثم خففه بعد ذلك. القول الثاني: الطول الحرة. وقد اختلف قول مالك في الحرة هل هي طول أم لا؛ فقال في المدونة: ليست الحرة بطول تمنع من نكاح الأمة؛ إذا لم يجد سعة لأخرى وخاف العنت. وقال في كتاب محمد ما يقتضي أن الحرة بمثابة الطول. قال اللخمي: وهو ظاهر القرآن. وروي نحو هذا عن ابن حبيب، وقال أبو حنيفة. فيقتضي هذا أن من عنده حرة فلا يجوز له نكاح الأمة لأن عدم السعة وخاف العنت، لأنه طالب شهوة وعنده امرأة، وقال به الطبري واحتج له. قال أبو يوسف: الطول هو وجود الحرة تحته؛ فإذا كانت تحته حرة فهو ذو طول، فلا يجوز له نكاح الأمة. القول الثالث: الطول الجلد والصبر لمن أحب أمة وهويها حتى صار لذلك لا يستطع أن يتزوج غيرها، فإن له أن يتزوج الأمة إذا لم يملك هواها وخاف أن يبغي بها وإن كان يجد سعة في المال لنكاح حرة؛ هذا قول قتادة والنخعي وعطاء وسفيان الثوري. فيكون قوله تعالى{لمن خشي العنت} على هذا التأويل في صفة عدم الجلد. وعلى التأويل الأول يكون تزويج الأمة معلقا بشرطين: عدم السعة في المال، وخوف العنت؛ فلا يصح إلا باجتماعهما. وهذا هو نص مذهب مالك في المدونة من رواية ابن نافع وابن القاسم وابن وهب وابن زياد. قال مطرف وابن الماجشون: لا يحل للرجل أن ينكح أمة، ولا يقران إلا أن يجتمع الشرطان كما قال الله تعالى. وقال أصبغ. وروي هذا القول عن جابر بن عبدالله وابن عباس وعطاء وطاوس والزهري ومكحول، وبه قال الشافعي وأبو ثور وأحمد وإسحاق، واختاره ابن المنذر وغيره. فإن وجد المهر وعدم النفقة فقال مالك في كتاب محمد: لا يجوز له أن يتزوج أمة. وقال أصبغ: ذلك جائز؛ إذ نفقة الأمة على أهلها إذا لم يضمها إليه. وفي الآية قول رابع: قال مجاهد: مما وسع الله على هذه الأمة نكاح الأمة والنصرانية، وإن كان موسرا. وقال بذلك أبو حنيفة أيضا، ولم يشترط خوف العنت؛ إذا لم تكن تحته حرة. قالوا: لأن كل مال يمكن أن يتزوج به الأمه يمكن أن يتزوج به الحرة؛ فالآية على هذا أصل في جواز نكاح الأمة مطلقا. قال مجاهد: وبه يأخذ سفيان، وذلك أني سألته عن نكاح الأمة فحدثني عن ابن أبي ليلى عن المنهال عن عباد بن عبدالله عن علي رضي الله عنه قال: إذا نكحت الحرة على الأمة كان للحرة يومان وللأمة يوم. قال: ولم ير علي به بأسا. وحجة هذا القول عموم قوله تعالى فإن قدر على طول حرة كتابية فهل يتزوج الأمة؛ اختلف علماؤنا في ذلك، فقيل: يتزوج الأمة فإن الأمة المسلمة لا تلحق بالكافرة، فأمة مؤمنة خير من حرة مشركة. واختاره ابن العربي. وقيل: يتزوج الكتابية؛ لأن الأمة وإن كانت تفضلها بالإيمان فالكافرة مفضلها بالحرية وهي زوجة. وأيضا فإن ولدها يكون حرا لا يسترق، وولد الأمة يكون رقيقا؛ وهذا هو الذي يتمشى على أصل المذهب. واختلف العلماء في الرجل يتزوج الحرة على الأمة ولم تعلم بها؛ فقالت طائفة: النكاح ثابت. كذلك قال سعيد بن المسيب وعطاء بن أبي رباح والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي، وروي عن علي. وقيل: للحرة الخيار إذا علمت. ثم في أي شيء يكون لها الخيار؛ فقال الزهري وسعيد بن المسيب ومالك وأحمد وإسحاق في أن تقيم معه أو تفارقه. وقال عبدالملك: في أن تقر نكاح الأمة أو تفسخه. وقال النخعي: إذا تزوج الحرة على الأمة فارق الأمة إلا أن يكون له منها ولد؛ فإن كان لم يفرق بينهما. وقال مسروق: يفسخ نكاح الأمة؛ لأنه أمر أبيح للضرورة كالميتة، فإذا ارتفعت الضرورة ارتفعت الإباحة. فإن كانت تحته أمتان علمت الحرة بواحدة منهما ولم تعلم بالأخرى فإنه يكون لها الخيار. ألا ترى لو أن حرة تزوج عليها أمة فرضيت، ثم تزوج عليها أمة فرضيت، ثم تزوج عليها أخرى فأنكرت كان ذلك لها؛ فكذلك هذه إذا لم تعلم بالأمتين وعلمت بواحدة. قال ابن القاسم: قال مالك: وإنما جعلنا الخيار للحرة في هذه المسائل لما قالت العلماء قبلي. يريد سعيد بن المسيب وابن شهاب وغيرهما. قال مالك: ولولا ما قالوه لرأيته حلالا؛ لأنه في كتاب الله حلال. فإن لم تكفه الحرة واحتاج إلى أخرى ولم يقدر على صداقها جاز له أن يتزوج الأمة حتى ينتهي إلى أربع بالتزويج بظاهر القرآن. رواه ابن وهب عن مالك. وروى ابن القاسم عنه: يرد نكاحه. قال ابن العربي: والأول أصح في الدليل، وكذلك هو في القرآن؛ فإن من رضي بالسبب المحقق رضي بالمسبب المرتب عليه، وألا يكون لها خيار؛ لأنها قد علمت أن له نكاح الأربع؛ وعلمت أنه إن لم يقدر على نكاح حرة تزوج أمة، وما شرط الله سبحانه عليها كما شرطت على نفسها، ولا يعتبر في شروط الله سبحانه وتعالى علمها. وهذا غاية التحقيق في الباب والإنصاف فيه. قوله تعالى{المحصنات} يريد الحرائر؛ يدل عليه التقسيم بينهن وبين الإماء في قوله{من فتياتكم المؤمنات}. وقالت فرقة: معناه العفائف. وهو ضعيف؛ لأن الإماء يقعن تحته فأجازوا نكاح إماء أهل الكتاب، وحرموا البغايا من المؤمنات والكتابيات. وهو قول ابن ميسرة والسدي. وقد اختلف العلماء فيما يجوز للحر الذي لا يجد الطول ويخشى العنت من نكاح الإماء؛ فقال مالك وأبو حنيفة وابن شهاب الزهري والحارث العكلي: له أن يتزوج أربعا. وقال حماد بن أبي سليمان: ليس له أن ينكح من الإماء أكثر من اثنتين. وقال الشافعي وأبو ثور وأحمد وإسحاق: ليس له أن ينكح من الإماء إلا واحدة. وهو قول ابن عباس ومسروق وجماعة؛ واحتجوا بقوله تعالى{ذلك لمن خشي العنت منكم} وهذا المعنى يزول بنكاح واحدة. قوله تعالى{فمن ما ملكت أيمانكم} أي فليتزوج بأمة الغير. ولا خلاف بين العلماء أنه لا يجوز له أن يتزوج أمة نفسه؛ لتعارض الحقوق واختلافها. }من فتياتكم} أي المملوكات، وهي جمع فتاة. والعرب تقول للمملوك: فتى، وللمملوكة فتاة. وفي الحديث الصحيح: قوله تعالى{المؤمنات} بين بهذا أنه لا يجوز التزوج بالأمة الكتابية، فهذه الصفة مشترطة عند مالك وأصحابه، والشافعي وأصحابه، والثوري والأوزاعي والحسن البصري والزهري ومكحول ومجاهد. وقالت طائفة من أهل العلم منهم أصحاب الرأي: نكاح الأمة الكتابية جائز. قال أبو عمر: ولا أعلم لهم سلفا في قولهم، إلا أبا ميسرة عمرو بن شرحبيل فإنه قال: إماء أهل الكتاب بمنزلة الحرائر منهن. قالوا: وقوله }المؤمنات} على جهة الوصف الفاضل وليس بشرط ألا يجوز غيرها؛ وهذا بمنزلة قوله تعالى{فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة} فإن خاف ألا يعدل فتزوج أكثر من واحدة جاز، ولكن الأفضل ألا يتزوج؛ فكذلك هنا الأفضل ألا يتزوج إلا مؤمنة، ولو تزوج غير المؤمنة جاز. واحتجوا بالقياس على الحرائر، وذلك أنه لما لم يمنع قوله{المؤمنات} في الحرائر من نكاح الكتابيات فكذلك لا يمنع قوله{المؤمنات} في الإماء من نكاح إماء الكتابيات. وقال أشهب في المدونة: جائز للعبد المسلم أن يتزوج أمة كتابية. فالمنع عده أن يفضل الزوج في الحرية والدين معا. ولا خلاف بين العلماء أنه لا يجوز لمسلم نكاح مجوسية ولا وثنية، وإذا كان حراما بإجماع نكاحهما فكذلك وطؤهما بملك اليمين قياسا ونظرا. وقد روي عن طاوس ومجاهد وعطاء وعمرو بن دينار أنهم قالوا: لا بأس بنكاح الأمة المجوسية بملك اليمين. وهو قول شاذ مهجور لم يلتفت إليه أحد من فقهاء الأمصار. وقالوا: لا يحل أن يطأها حتى تسلم. وقد تقدم القول في هذه المسألة في }البقرة} مستوفى. والحمد لله. قوله تعالى{والله أعلم بإيمانكم} المعنى أن الله عليم ببواطن الأمور ولكم ظواهرها، وكلكم بنو آدم وأكرمكم عند الله أتقاكم، فلا تستنكفوا من التزوج بالإماء عند الضرورة، وإن كانت حديثة عهد بسباء، أو كانت خرساء وما أشبه ذلك. ففي اللفظ تنبيه على أنه ربما كان إيمان أمة أفضل من إيمان بعض الحرائر. قوله تعالى{بعضكم من بعض} ابتداء وخبر؛ كقولك زيد في الدار. والمعنى أنتم بنو آدم. وقيل: أنتم مؤمنون. وقيل: في الكلام تقديم وتأخير؛ المعنى: ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فلينكح بعضكم من بعض: هذا فتاة هذا، وهذا فتاة هذا. فبعضكم على هذا التقدير مرفوع بفعله وهو فلينكح. والمقصود بهذا الكلام توطئة نفوس العرب التي كانت تستهجن ولد الأمة وتعيره وتسميه الهجين، فلما جاء الشرع بجواز نكاحها علموا أن ذلك التهجين لا معنى له، وإنما انحطت الأمة فلم يجز للحر التزوج بها إلا عند الضرورة؛ لأنه تسبب إلى إرقاق الولد، وأن الأمة لا تفرغ للزوج على الدوام، لأنها مشغولة بخدمة المولى. قوله تعالى{فانكحوهن بإذن أهلهن} أي بولاية أربابهن المالكين وإذنهم. وكذلك العبد لا ينكح إلا بإذن سيده؛ لأن العبد مملوك لا أمر له، وبدنه كله مستغرق، لكن الفرق بينهما أن العبد إذا تزوج بغير إذن سيده فإن أجازه السيد جاز؛ هذا مذهب مالك وأصحاب الرأي، وهو قول الحسن البصري وعطاء بن أبي رباح وسعيد بن المسيب وشريح والشعبي. والأمة إذا تزوجت بغير إذن أهلها فسخ ولم يجز بإجازة السيد؛ لأن نقصان الأنوثة في الأمة يمنع من انعقاد النكاح البتة. وقالت طائفة: إذا نكح العبد بغير إذن سيده فسخ نكاحه؛ هذا قول الشافعي والأوزاعي وداود بن علي، قالوا: لا تجوز إجازة المولى إن لم يحضره؛ لأن العقد الفاسد لا تصح إجازته، فإن أراد النكاح استقبله على سنته. وقد أجمع علماء المسلمين على أنه لا يجوز نكاح العبد بغير إذن سيده. وقد كان ابن عمر يعد العبد بذلك زانيا ويحده؛ وهو قول أبي ثور. وذكر عبدالرزاق عن عبدالله بن عمر عن نافع عن ابن عمر، وعن معمر عن أيوب عن نافع عن ابن عمر أنه أخذ عبدا له نكح بغير إذنه فضربه الحد وفرق بينهما وأبطل صداقها. قال: وأخبرنا ابن جريج عن موسى بن عقبة أنه أخبره عن نافع عن ابن عمر أنه كان يرى نكاح العبد بغير إذن وليه زنى، ويرى عليه الحد، ويعاقب الذين أنكحوهما. قال: قوله تعالى{وآتوهن أجورهن} دليل على وجوب المهر في النكاح، وأنه للأمة. }بالمعروف} معناه بالشرع والسنة، وهذا يقتضي أنهن أحق بمهورهن من السادة، وهو مذهب مالك. قال في كتاب الرهون: ليس للسيد أن يأخذ مهر أمته ويدعها بلا جهاز. وقال الشافعي: الصداق للسيد؛ لأنه عوض فلا يكون للأمة. أصله إجازة المنفعة في الرقبة، وإنما ذكرت لأن المهر وجب بسببها. وذكر القاضي إسماعيل في أحكامه: زعم بعض العراقيين إذا زوج أمته من عبده فلا مهر. وهذا خلاف الكتاب والسنة وأطنب فيه. قوله تعالى{محصنات} أي عفائف. وقرأ الكسائي }محصنات} بكسر الصاد في جميع القرآن، إلا في قوله تعالى قوله تعالى{فإذا أحصن} قراءة عاصم وحمزة والكسائي بفتح الهمزة. الباقون بضمها. فبالفتح معناه أسلمن، وبالضم زوجن. فإذا زنت الأمة المسلمة جلدت نصف جلد الحرة؛ وإسلامها هو إحصانها في قول الجمهور، ابن مسعود والشعبي والزهري وغيرهم. وعليه فلا تحد كافرة إذا زنت، وهو قول الشافعي فيما ذكر ابن المنذر. وقال آخرون: إحصانها التزوج بحر. فإذا زنت الأمة المسلمة التي لم تتزوج فلا حد عليها، قال سعيد بن جبير والحسن وقتادة، وروي عن ابن عباس وأبي الدرداء، وبه قال أبو عبيد. قال: وفي حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه سئل عن حد الأمة فقال: إن الأمة ألقت فروة رأسها من وراء الدار. قال الأصمعي: الفروة جلدة الرأس. قال أبو عبيدة: وهو لم يرد الفروة بعينها، وكيف تلقى جلدة رأسها من وراء الدار، ولكن هذا مثل ! إنما أراد بالفروة القناع، يقول ليس عليها قناع ولا حجاب، وأنها تخرج إلى كل موضع يرسلها أهلها إليه، لا تقدر على الامتناع من ذلك؛ فتصير حيث لا تقدر على الامتناع من الفجور، مثل رعاية الغنم وأداء الضريبة ونحو ذلك؛ فكأنه رأى أن لا حد عليها إذا فجرت؛ لهذا المعنى. وقالت فرقة: إحصانها التزوج، إلا أن الحد واجب على الأمة المسلمة غير المتزوجة بالسنة، كما قلت: ظهر المؤمن حمى لا يستباح إلا بيقين، ولا يقين مع الاختلاف، لولا ما جاء في صحيح السنة من الجلد في ذلك. والله أعلم. وقال أبو ثور فيما ذكر ابن المنذر: وإن كانوا اختلفوا في رجمهما فإنهما يرجمان إذا كانا محصنين، وإن كان إجماع فالإجماع أولى. واختلف العلماء فيمن يقيم الحد عليهما؛ فقال ابن شهاب: مضت السنة أن يحد العبد والأمة أهلوهم في الزنى، إلا أن يرفع أمرهم إلى السلطان فليس لأحد أن يفتات عليه؛ وهو مقتضى فإن زنت الأمة ثم عتقت قبل أن يحدها سيدها لم يكن له سبيل إلى حدها، والسلطان يجلدها إذا ثبت ذلك عنده؛ فإن زنت ثم تزوجت لم يكن لسيدها أن يجلدها أيضا لحق الزوج؛ إذ قد يضره ذلك. وهذا مذهب مالك إذا لم يكن الزوج ملكا للسيد، فلو كان، جاز للسيد ذلك لأن حقهما حقه. فإن أقر العبد بالزنى وأنكره المولى فإن الحد يجب على العبد لإقراره، ولا التفات لما أنكره المولى، وهذا مجمع عليه بين العلماء. وكذلك المدبر وأم الولد والمكاتب والمعتق بعضه. وأجمعوا أيضا على أن الأمة إذا زنت ثم أعتقت حدت حد الإماء؛ وإذا زنت وهي لا تعلم بالعتق ثم علمت وقد حدت أقيم عليها تمام حد الحرة؛ ذكره ابن المنذر. واختلفوا في عفو السيد عن عبده وأمته إذا زنيا؛ فكان الحسن البصري يقول: له أن يعفو. وقال غير الحسن: لا يسعه إلا إقامة الحد، كما لا يسع السلطان أن يعفو عن حد إذا علمه، لم يسع السيد كذلك أن يعفو عن أمته إذا وجب عليها الحد؛ وهذا على مذهب أبي ثور. قال ابن المنذر: وبه نقول. قوله تعالى{فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب} أي الجلد ويعني بالمحصنات ههنا الأبكار الحرائر؛ لأن الثيب عليها الرجم لا يتبعض، وإنما قيل للبكر محصنة وإن لم تكن متزوجة؛ لأن الإحصان يكون بها؛ كما يقال: أضحية قبل أن يضحي بها؛ وكما يقال للبقرة: مثيرة قبل أن تثير. وقيل{المحصنات} المتزوجات؛ لأن عليها الضرب والرجم في الحديث، والرجم لا يتبعض فصار عليهن نصف الضرب. والفائدة في نقصان حدهن أنهن أضعف من الحرائر. ويقال: إنهن لا يصلن إلى مرادهن كما تصل الحرائر. وقيل: لأن العقوبة تجب على قدر النعمة؛ ألا ترى أن الله تعالى قال لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم وأجمع العلماء على أن بيع الأمة الزانية ليس بيعها بواجب لازم على بها، وإن اختاروا له ذلك؛ قوله تعالى{وأن تصبروا خير لكم} أي الصبر على العزبة خير من نكاح الأمة، لأنه يفضي إلى إرقاق الولد، والغض من النفس والصبر على مكارم الأخلاق أولى من البذالة. وروي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: أيما حر تزوج بأمة فقد أرق نصفه. يعني يصير ولده رقيقا؛ فالصبر عن ذلك أفضل لكيلا يرق الولد. وقال سعيد بن جبير: ما نكاح الأمة من الزنى إلا قريب، قال الله تعالى{وأن تصبروا خير لكم}، أي عن نكاح الإماء. {يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم والله عليم حكيم} أي ليبين لكم أمر دينكم ومصالح أمركم، وما يحل لكم وما يحرم عليكم. وذلك يدل على امتناع خلو واقعة عن حكم الله تعالى؛ ومنه قوله تعالى يريد أن أنسى. قال النحاس: وخطأ الزجاج هذا القول وقال: لو كانت اللام بمعنى }أن} لدخلت عليها لام أخرى؛ كما تقول: جئت كي تكرمني، ثم تقول جئت لكي تكرمني. وأنشدنا: قال: والتقدير إرادته ليبين لكم. قال النحاس: وزاد الأمر على هذا حتى سماها بعض القراء لام أن؛ وقيل: المعنى يريد الله هذا من أجل أن يبين لكم. قوله تعالى{ويهديكم سنن الذين من قبلكم} أي من أهل الحق. وقيل: معنى }يهديكم} يبين لكم طرق الذين من قبلكم من أهل الحق وأهل الباطل. وقال بعض أهل النظر: في هذا دليل على أن كل ما حرم الله قبل هذه الآية علينا فقد حرم على من كان قبلنا. قال النحاس: وهذا غلط؛ لأنه يكون المعنى ويبين لكم أمر من كان قبلكم ممن كان يجتنب ما نهي عنه، وقد يكون ويبين لكم كما بين لمن كان قبلكم من الأنبياء فلا يومي به إلى هذا بعينه. ويقال: إن قوله }يريد الله} ابتداء القصة، أي يريد الله أن يبين لكم كيفية طاعته. }ويهديكم} يعرفكم }سنن الذين من قبلكم} أنهم لما تركوا أمري كيف عاقبتهم، وأنتم إذا فعلتم ذلك لا أعاقبكم ولكني أتوب عليكم. }والله عليم} بمن تاب }حكيم} بقبول التوبة. {والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما، يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا} قوله تعالى{والله يريد أن يتوب عليكم} ابتداء وخبر. و}أن} في موضع نصب بـ }يريد} وكذلك }يريد الله أن يخفف عنكم}؛ فـ }أن يخفف} في موضع نصب بـ }يريد} والمعنى: يريد توبتكم، أي يقبلها فيتجاوز عن ذنوبكم ويريد التخفيف عنكم. قيل: هذا في جميع أحكام الشرع، وهو الصحيح. وقيل: المراد بالتخفيف نكاح الأمة، أي لما علمنا ضعفكم عن الصبر عن النساء خففنا عنكم بإباحة الإماء؛ قال مجاهد وابن زيد وطاوس. قال طاوس: ليس يكون الإنسان في شيء أضعف منه في أمر النساء. واختلف في تعيين المتبعين للشهوات؛ فقال مجاهد: هم الزناة. السدي: هم اليهود والنصارى. وقالت فرقة: هم اليهود خاصة؛ لأنهم أرادوا أن يتبعهم المسلمون في نكاح الأخوات من الأب. وقال ابن زيد: ذلك على العموم، وهو الأصح. والميل: العدول عن طريق الاستواء؛ فمن كان عليها أحب أن يكون أمثاله عليها حتى لا تلحقه معرة. قوله تعالى{وخلق الإنسان ضعيفا} نصب على الحال؛ والمعنى أن هواه يستميله وشهوته وغضبه يستخفانه، وهذا أشد الضعف فأحتاج إلى التخفيف. وقال طاوس: ذلك في أمر النساء خاصة. وروي عن ابن عباس أنه قرأ }وخلق الإنسان ضعيفا} أي وخلق الله الإنسان ضعيفا، أي لا يصبر عن النساء. قال ابن املسيب: لقد أتى علي ثمانون سنة وذهبت إحدى عيني وأنا أعشو بالأخرى وصاحبي أعمى أصم - يعني ذكره - وإني أخاف من فتنة النساء. ونحوه عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه، قال عبادة: ألا تروني لا أقوم إلا رفدا ولا آكل إلا ما لوق لي - قال يحيى: يعني لين وسخن - وقد مات صاحبي منذ زمان - قال يحيى: يعني ذكره - وما يسرني أني خلوت بامرأة لا تحل لي، وأن لي ما تطلع عليه الشمس مخافة أن يأتيني الشيطان فيحركه علي، إنه لا سمع له ولا بصره. {يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما} قوله تعالى{بالباطل} أي بغير حق. ووجوه ذلك تكثر على ما بيناه؛ وقد قدمنا معناه في البقرة. ومن أكل المال بالباطل بيع العربان؛ وهو أن يأخذ منك السلعة أو يكتري منك الدابة ويعطيك درهما فما فوقه، على أنه إن اشتراها أو ركب الدابة فهو من ثمن السلعة أو كراء الدابة؛ وإن ترك ابتياع السلعة أو كراء الدابة فما أعطاك فهو لك. فهذا لا يصلح ولا يجوز عند جماعة فقهاء الأمصار من الحجازيين والعراقيين، لأنه من باب بيع القمار والغرر والمخاطرة، وأكل المال بالباطل بغير عوض ولا هبة، وذلك باطل بإجماع. وبيع العربان مفسوخ إذا وقع على هذا الوجه قبل القبض وبعده، وترد السلعة إن كانت قائمة، فإن فاتت رد قيمتها يوم قبضها. وقد روي عن قوم منهم ابن سيرين ومجاهد ونافع بن عبدالحارث وزيد بن أسلم أنهم أجازوا بيع العربان على ما وصفنا. وكان زيد بن أسلم يقول: أجازه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أبو عمر: هذا لا يعرف عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجه يصح، وإنما ذكره عبدالرزاق عن الأسلمي عن زيد بن أسلم مرسلا؛ وهذا ومثله ليس حجة. ويحتمل أن يكون بيع العربان الجائز على ما تأوله مالك والفقهاء معه؛ وذلك أن يعربنه ثم يحسب عربانه من الثمن إذا اختار تمام البيع. وهذا لا خلاف في جوازه عن مالك وغيره؛ قوله تعالى{إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم} هذا استثناء منقطع، أي ولكن تجارة عن تراض. والتجارة هي البيع والشراء؛ وهذا مثل قوله تعالى وتسمى هذه كان التامة؛ لأنها تمت بفاعلها ولم تحتج إلى مفعول. وقرئ }تجارة} بالنصب؛ فتكون كان ناقصة؛ لأنها لا تتم بالاسم دون الخبر، فاسمها مضمر فيها، وإن شئت قدرته، أي إلا أن تكون الأموال أموال تجارة؛ فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه، وقد تقدم هذا؛ ومنه قوله تعالى قوله تعالى{تجارة} التجارة في اللغة عبارة عن المعاوضة؛ ومنه الأجر الذي يعطيه البارئ سبحانه العبد عوضا عن الأعمال الصالحة التي هي بعض من فعله؛ قال الله تعالى اعلم أن كل معاوضة تجارة على أي وجه كان العوض إلا أن قوله }بالباطل} أخرج منها كل عوض لا يجوز شرعا من ربا أو جهالة أو تقدير عوض فاسد كالخمر والخنزير وغير ذلك. وخرج منها أيضا كل عقد جائز لا عوض فيه؛ كالقرض والصدقة والهبة لا للثواب. وجازت عقود التبرعات بأدلة أخرى مذكورة في مواضعها. فهذان طرفان متفق عليهما. وخرج منها أيضا دعاء أخيك إياك إلى طعامه. روى أبو داود عن ابن عباس في قوله تعالى{لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم} فكان الرجل يحرج أن يأكل عند أحد من الناس بعد ما نزلت هذه الآية؛ فنسخ ذلك بالآية الأخرى التي في }النور}؛ فقال لو اشتريت من السوق شيئا؛ فقال لك صاحبه قبل الشراء: ذقه وأنت في حل؛ فلا تأكل منه؛ لأن إذنه بالأكل لأجل الشراء؛ فربما لا يقع بينكما شراء فيكون ذلك شبهة، ولكن لو وصف لك صفة فاشتريته فلم تجده على تلك الصفة فأنت بالخيار. والجمهور على جواز الغبن في التجارة؛ مثل أن يبيع رجل ياقوتة به بدرهم وهي تساوي مائة فذلك جائز، وأن المالك الصحيح الملك جائز له أن يبيع ماله الكثير بالتافه اليسير، وهذا ما لا اختلاف فيه بين العلماء إذا عرف قدر ذلك، كما تجوز الهبة لو وهب. واختلفوا فيه إذا لم يعرف قدر ذلك؛ فقال قوم: عرف قدر ذلك أو لم يعرف فهو جائز إذا كان رشيدا حرا بالغا. وقالت فرقة: الغبن إذا تجاوز الثلث مردود، وإنما أبيح منه المتقارب المتعارف في التجارات، وأما المتفاحش الفادح فلا؛ وقال ابن وهب من أصحاب مالك رحمه الله. والأول أصح؛ قوله تعالى{عن تراض منكم} أي عن رضى، إلا أنها جاءت من المفاعلة إذ التجارة من اثنين. واختلف العلماء في التراضي؛ فقالت طائفة: تمامه وجزمه بافتراق الأبدان بعد عقدة البيع، أو بأن يقول أحدهما لصاحبه: اختر؛ فيقول: قد اخترت، وذلك بعد العقدة أيضا فينجزم أيضا وإن لم يتفرقا؛ قاله جماعة من الصحابة والتابعين، وبه قال الشافعي والثوري والأوزاعي والليث وابن عيينة وإسحاق وغيرهم. قال الأوزاعي: هما بالخيار ما لم يتفرقا؛ إلا بيوعا ثلاثة: بيع السلطان المغانم، والشركة في الميراث، والشركة في التجارة؛ فإذا صافقه في هذه الثلاثة فقد وجب البيع وليسا فيه بالخيار. وقال: وحد التفرقة أن يتوارى كل واحد منهما عن صاحبه؛ وهو قول أهل الشام. وقال الليث: التفرق أن يقوم أحدهما. وكان أحمد بن حنبل يقول: هما بالخيار أبدا ما لم يتفرقا بأبدانهما، وسواء قالا: اخترنا أو لم يقولاه حتى يفترقا بأبدانهما من مكانهما؛ وقال الشافعي أيضا. وهو الصحيح في هذا الباب للأحاديث الواردة في ذلك. وهو مروي عن ابن عمر وأبي برزة وجماعة من العلماء. وقال مالك وأبو حنيفة: تمام البيع هو أن يعقد البيع بالألسنة فينجزم العقد بذلك ويرتفع الخيار. قال محمد بن الحسن: معنى قوله في الحديث وفي هذه الآية مع الأحاديث التي ذكرناها ما يرد قول من ينكر طلب الأقوات بالتجارات والصناعات من المتصوفة الجهلة؛ لأن الله تعالى حرم أكلها بالباطل وأحلها بالتجارة، وهذا بين. قوله تعالى{ولا تقتلوا أنفسكم} فيه مسألة واحدة - قرأ الحسن }تُقَتِّلوا} على التكثير. وأجمع أهل التأويل على أن المراد بهذه الآية النهي أن يقتل بعض الناس بعضا. ثم لفظها يتناول أن يقتل الرجل نفسه بقصد منه للقتل في الحرص على الدنيا وطلب المال بأن يحمل نفسه على الغرر المؤدي إلى التلف. ويحتمل أن يقال{ولا تقتلوا أنفسكم} في حال ضجر أو غضب؛ فهذا كله يتناول النهي. وقد احتج عمرو بن العاص بهذه الآية حين امتنع من الاغتسال بالماء البارد حين أجنب في غزوة ذات السلاسل خوفا على نفسه منه؛ فقرر النبي صلى الله عليه وسلم احتجاجه وضحك عنده ولم يقل شيئا. خرجه أبو داود وغيره، وسيأتي.
|